استيلاء الصليبيين على بيمارستان القدس الفاطمي وبناء بيمارستان القدس الصلاحي بعد تحريرها


وبالعودة بتاريخ القدس للوراء أكثر تفيد المراجع الأوروبية المسيحية والتي يصعب التأكد منها أنه بفضل العلاقات الجيدة بين شارلمان والخليفة العباسي فقد سمح الأخير ببناء مشفى صغير للحجاج المسيحيين الزائرين للقدس قريباً من كنيسة القيامة ولكن لا يعرف موقع هذا المشفى بالضبط (وحتى أعمال التنقيب التي ستذكر لاحقاً والتي أقيمت في أرض البيمارستان الصلاحي قبل بناء كنيسة الفادي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لم تستطع العثور على مايدل على مكان مشفى الحجاج القديم هذا). ويعتقد أن مشفى الحجاج المسيحيين الأول القديم قد هدم مع كنيسة القيامة في زمن حكم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله المعروف بجنونه وتناقضاته وظلمه للجميع بما فيهم المسلمين في عام (1005ميلادي) وقد قتل الحاكم بأمر الله بتخطيط من أخته وقائد جيشه كما يعتقد.(6) وتفيد المصادر المسيحية أن مشفى القديس جون (يوحنا) الذي أسس لاحقاً لخدمة الحجاج المسيحيين بالقرب من كنيسة تحمل نفس الاسم قد أذن ببنائه وإعادة بناء كنيسة القيامة الخليفة علي الزاهر ابن الحاكم بأمر الله وذلك بأموال وتبرعات من تجار ألمالفي وساليرنو الإيطاليين في عام
(1023 ميلادي) لعلاج الحجاج المسيحيين. وفي زمن الإحتلال الصليبي (1099-1187 ميلادي) سيطر الصليبيون على هذا المشفى كسائر الأماكن في القدس وتأسس ما يسمى بهيئة فرسان القديس جون (يوحنا) أو فرسان المشفى (الهوسبيتاليين) أو (الأسبيتارية) أو (الداوية) على يد شخص يدعى جيرارد وتطورت علي يد خلفه ريموند من بعده. نشأت هذه الهيئةً في بداية تكوينها  كهيئة دينية لرعاية المرضى والجرحى وتحولت لاحقاً إلى هيئة دينية عسكرية تضم فرساناً عسكريين يشاركون في الحروب ضد المسلمين. وكان فرسان الهوسبيتاليين يميزون أنفسهم أثناء المعارك مع المسلمين بلبس رداء أسود مرسوم عليه صليب أبيض ذو ثمانية أطراف مدببة وقد عرفوا بضراوتهم في المعارك وبنفوذهم الكبير بين الصليبيين وقد كان للفرسان الهوسبيتاليين دور كبير في معارك قلعة الحصن بالكرك وقلعة مرقط وكذلك لاحقاً في الحملة الصليبية الثالثة. بعد تحرير القدس رحل الهوسبيتاليين واندحروا لعكا ثم قبرص ثم رودوس ثم مالطا مع استمرار الحروب مع المسلمين والتي كان يقود آخرها العثمانيين.  ومن هنا نشأت المسميات الجديدة لهم كفرسان رودس وفرسان مالطا والذين استمروا بأعمال القرصنة ضد السواحل المغربية والسفن العثمانية إلى أن أخرجهم نابليون من مالطا.(16)،(17)



(لوحات توضح زي فرسان القديس جون (يوحنا) الهوسبيتاليين أو الداوية أو الأسبتارية (Hospitaller))

(صورة للوحة في متحف توبكابي عن حصار العثمانيين لفرسان القديس جون في رودوس عام 1522م)

بعد تحرير القدس في معركة حطين كان أول ما قام به صلاح الدين هو تطهير المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة اللذين حولهما الصليبيين لكنائس و جعلوا جزءاً من الأقصى سكناً لفرسان المعبد .وقام صلاح الدين بإعادة المساجد الأخرى والزوايا والمدارس التي استولى عليها الصليبيون وعمد إلى تأمين الخدمات لسكان المدينة وتنظيم إدارة شئونها وأمنها و جعل بعض المباني التي أنشأها الصليبيون مباني عامة. وقد أعاد صلاح الدين للمسيحيين الشرقيين الأورثودوكس من أهل البلاد إدارة كنيسة القيامة التي سيطر عليها الصليبيون أثناء حكمهم وجعلهم للقدس مدينة لاتينية حكراً لهم ، وسمح صلاح الدين لليهود الشرقيين بالسكن في المدينة بعد أن منعهم الصليبيون(20) ، وأعاد العرب المسلمين من أهل البلاد الذين طردوا أو فروا بسبب ما تعرضوا له من مذابح مريعة واضطهاد على يد الصليبيين وهو أمريعترف به المؤرخون الغربيون.




(لوحات توضح انتصار المسلمين بقيادة صلاح الدين في معركة حطين)


(خريطة قديمة للقدس (1200م) كما أرادها الصليبيون مدينة لاتينية )


لابد هنا من إبداء الإشادة والاحترام لبعض المصادروالباحثين والمؤرخين الغربيين الذين تحروا الصدق والدقة عند وصف شمائل صلاح الدين ، فبالإضافة لوصفهم لبراعة قيادته وفروسيته وصدقه واحترامه للإتفاقيات والعهود وصفوا كذلك نبله ورحمته حتى مع أعدائه. الكل يعرف ومن مراجع الطرفين بقضية الإحترام المتبادل بين صلاح الدين وريتشارد قلب الاسد وكيف أن صلاح الدين عرض إرسال طبيبه الخاص لعلاج الملك ريتشارد عند إصابته في إحدى معارك الحملة الصليبية الثالثة. وقد شاعت في أوروبا في القرن الرابع عشر قصيدة ملحمية تتحدث عن مناقب صلاح الدين وفروسيته ونبله. وفي فترات لاحقة وبعد زوال آثار صدمة ومرارة هزيمة الصليبيين ازدادت الكتابات المنصفة والممجدة لصلاح الدين في أوروبا فقد مدحه على سبيل المثال لا الحصر إدوارد كين أشهر رواد المنهج العلمي في كتابة التاريخ ، وقد وصفه الشاعر دانتي بأنه من الأرواح "الوثنية" الطاهرة (حسب تعبير الكاتب) وكان ممن مدحه وأشارلمناقبه كذلك كلاً من الأديب وليم بينتر والقصصي والمسرحي روبرت كرين والروائي وولتر سكوت والروائي الشهير تشارلز ديكنز وغيرهم .(25) وبالتركيز على فترة ما بعد تحرير القدس نجد أن المراجع الأجنبية الأوروبية تذكر كيف أن صلاح الدين قد أحسن معاملة الصليبيين المنهزمين وأمن لهم معبراً آمناً للرحيل. فقد أطلق صلاح الدين الأيوبي سراح الكثيرين من الأسرى الصليبيين دون فدية ودفع من ماله الخاص فدية أسرى فقراء وأعفى كبار السن من الفدية بل إنه أطلق سراح القادة والأمراء ليرافقوا زوجاتهم عندما قمن باستجدائه لذلك. وفيما يخص البيمارستان نجد أن هذه المصادر والمراجع الغربية تذكر أن صلاح الدين سمح ببقاء عشرات من فرسان القديس جون (الهوسبيتاليين) لرعاية مرضاهم والمصابين في مشفى كنيسة القديس جون (يوحنا) لحين شفائهم حتى لا يتعذب أولئك في محاولة نقلهم مع المغادرين فور تحرير القدس ولا يتكبدوا عناء السفر وهم مرضى. وقد أعطاهم صلاح الدين مهلة سنة لتصفية أمورهم فيما يتعلق بمشفى القديس جون. وتؤكد المراجع المسيحية ذلك وأن أن صلاح الدين قد سمح لمشفى القديس جون بالعمل لمدة سنة بعد تحرير القدس. (7)، (9) ومما يؤكد ذلك بوضوح ما جاء في مخطوطة رسالة موثقة من ثييري الرئيس الأكبر لفرسان المعبد إلى هنري الثاني ملك إنجلترا.(23) ومما تذكره مراجع غربية منصفة أخرى أيضاً أن صلاح الدين لم يكتفي بذلك بل قام بتقديم التبرعات لمشفى القديس جون حتى يتمكنوا من أداء عملهم خلال هذا العام كما ذكر في كتاب "هيئة مشفى القديس جون بالقدس" لبيدفورد وهولبيخ.(23) وهناك رواية فرنسية تتحدث عن رحمة وعطف صلاح الدين الأيوبي على الأسرى والجرحى الصليبيين.(26)


 (لوحة لصلاح الدين الأيوبي كما يتخيله الرسام)


أما المراجع العربية فهي تذكر ماحدث لاحقاً وأن صلاح الدين قد "أمر بأن تجعل الكنيسة المجاورة لدار الأسبيتار مارستاناً للمرضى ووقف عليها مواضع وخصص أدوية وعقاقيرغزيرة وفوض القضاء والنظر في هذه الوقوف إلى القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع أبي تميم" (ابن شداد). (10)،(3)،(4 )،(24)،(37) فبعد مرور السنة وانتهاء المهلة قام صلاح الدين بتوسعة المكان وضم أبنية وأراضي له وأنشأ مرافق أخرى لتأسيس بيمارستاناً ضخماً يخدم أهل المدينة والزائرين دون تمييز على أساس الدين وأنشأ به مدرسة لتعليم الطب فأصبح من أشهر البيمارستانات في عصره. ويقول ابن شداد وهو مؤلف كتاب "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية" حرفياً في مذكراته مع السلطان الناصر صلاح الدين "وأمرني بالمقام بالقدس إلى حين عوده إليه لعمارة بيمارستان أنشأه به وتكميل المدرسة التي أنشأها به وسار ضاحي نهار الخميس السادس من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة‏.‏"(38) ويظهرمدى عظم الجهود التي بذلت في طول المدة بين قرار الـتأسيس (583 للهجرة) والبدء الفعلي بالعمل بالبيمارستان (588 للهجرة).


(قبر صلاح الدين الأيوبي)


وقد استمرالإهتمام بالبيمارستان من قبل الحكام الأيوبيين الذين استلموا الحكم بعد صلاح الدين فقد عرف اهتمام الأيوبيين بصفة عامة وصلاح الدين بصفة خاصة ببناء البيمارستانات والمدارس وتكريم العلماء والأطباء كما تظهرآثارالأيوبيين والمخطوطات القديمة.



(المصادر والمراجع في الصفحة الأخيرة)